القصة الحقيقة لجمع القرآن الكريم

 

القصة الحقيقة لجمع القرآن الكريم

بحث إعداد / الدكتور محمد عناية الله سبحاني

لقد مضى على نزول القرآن أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم يتحرر بعد تاريخ جمع القرآن وتدوينه، فمن قائل إنه دُوّن في عهد رسول الله، وعلى يد رسول الله.
وهناك من يقول:لم يتم جمعه وتدوينه في حياته، وإنما جمع القرآن ودوّن بعد وفاته على يد خليفته أبي بكر الصديق .
أما الرأي الأول، فقائلوه قليلون، وأما الرأي الآخر فهو السائد في الآفاق، وقائلوه لايحصون!
ولكن الأخبار والمرويات لايحكم لها، ولاعليها، بكثرة القائلين، أو قلّتهم، وإنمايحكم لها، أو عليها بحكم الأدلة العلمية التي تتسم بالرصانة، وتتميز بالثقل العلمي، فلننظر أي القولين أرجح دليلا، وأقوى ثبوتا.
ولنبدأ جولتنا هذه بدراسة الروايات التي تناولت هذا الموضوع، والتي كانت موضع اهتمام الباحثين عموما، وعلى رأسها روايات صحيح البخاري، فلنبدأ بها.

رواية البخاري في جمع القرآن
روى البخاري، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني ابن السباق أن زيد بن ثابت الأنصاري ، وكان ممن يكتب الوحي قال:
أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال أبو بكر هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره  لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم. إلى آخرهما، وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر.
تابعه عثمان بن عمر والليث عن يونس عن ابن شهاب . وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة الأنصاري. وقال موسى عن إبراهيم حدثنا ابن شهاب مع أبي خزيمة . وتابعه يعقوب بن إبراهيم عن أبيه . وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم وقال مع خزيمة أو أبي خزيمة. (صحيح البخاري، سورة براءة التوبة:4 /1720/4402).
هذا ما رواه البخاري في موضوع جمع القرآن وتدوينه، وتلك الرواية وأمثالها تعتبر الأصل في هذاالموضوع. وهي صريحة في أن القرآن لم يرتب، ولم يدوّن في حياة رسول الله، وإنما بقي في صورة أجزاء، وقراطيس مفرّقة عندالناس، وهم قنعوا بماعندهم من السور القصار، أو الطوال، ولم يتطلعوا إلى المزيد الذي يوجد عند غيرهم. وظلّ الأمر هكذا، إلى أن جاءت حرب اليمامة، وتلك الحرب الضروس بنتائجها الرهيبة، وضحاياها المدهشة، هي التي أفزعت سيدنا عمر، وألقت في روعه ضرورة جمع القرآن قبل أن تأكل الحروب من يحفظه، ثم هو أقنع خليفة رسول الله أبابكر، حتى اقتنع بكلامه، وأمر بجمعه وتدوينه.
ومن يطّلع على تلك الروايات، وينعم فيهاالنظر، يجد نفسه أمام حشد من التساؤلات تثور في ذهنه، وهي كما يلي:

تساؤلات وإشكالات
• هل فارق رسول الله أصحابه، وغادر الدنيا، ولم يجمع القرآن، ولم يدونه، ولم يرتبه، ولم يحصّنه، ولم يحكم الأسوار حوله، ولم يطمئن إلى حفظه، وصيانته من الضياع؟ مع أنه لم يكن هناك شيء يحول دونه، ودون جمع القرآن، بل الأسباب كلها كانت مواتية، وكانت الدواعي متوفرة لجمعه، وتدوينه.
• هل تلهى رسول الله عن جمع القرآن، وهوكان على علم وبصيرة بماأصيبت به الأمم السالفة بعد رسلهم، حيث ضيعوا ماجاءت به رسلهم من كتاب الله، وتلاعبوا به، وأحدثوا فيه ما أملت عليهم أهواؤهم، من تحريف وتبديل!
• هل تلهى عنه رسول الله وهو على علم بأن القرآن خاتم الكتب، كماأنه خاتم الأنبياء، وإن كان تفريط في حفظه، وتدوينه، وحصل فيه شيء من تقديم أوتأخير، أوتبديل أوتحريف فهو خزي الأبد، حيث لايأتي بعده كتاب يهدي الناس إلى الرشد، ويصلح مافسد من أمرهم، ويذكّرهم بمانسوا من كتاب ربهم.
• هل شُغل رسول الله عن جمع القرآن وتدوينه، مع أنه بعث بالقرآن، وبعث لأجل القرآن، وماعاش إلا للقرآن، وما لبث بعد اكتمال نزول القرآن إلا قليلا، حتى ودّع الناس، ولحق بالرفيق الأعلى؟
• إن لم يستطع الرسول أن يجمع القرآن، ويرتبه بين الدفتين، في حياته، فما الذي منعه من الوصية جمعه، وترتيبه بعد وفاته، كماوصّى بأمور كثيرة، مثل تسيير جيش أسامة، حيث كان يردّد، وهو في الرمق الأخير من حياته: “أنفذوا جيش أُسامة، أنفذوا جيش أُسامة” (ابن سعد، الطبقات الكبرى، الطبقة الثانية من المهاجرين: 4/67)، وكما وصى بالإحسان إلى الأنصار، حيث قال  في خطبة قبل وفاته: يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا، إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.(السيرة الحلبية: 3/461)، وكما وصّى بسد كل خَوخة إلا خَوخة أبي بكر حيث قال: (إن أمنّ الناس عليّ في بدنه، و دينه، وذات يده أبو بكر، و لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، و لكن أخوة الإسلام، سدّوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر.) (السيرة لابن حبان، ذكر وفاة رسول الله:1/397). فإن وصى رسول الله لتلك الأمور وغيرها في حين وفاته، فماالذي منعه من الوصية بجمع القرآن، وتدوينه، وهو أكبر همومه، وأوجب واجباته، وغاية غاياته؟
• قد وصى المسلمين رسولهم في خطبة الوداع بالتمسك بكتاب الله، حيث قال: أيها الناس إني قد تركت فيكم ما، إن أخذتم به لم تضلوا، كتاب الله، فاعملوا به. (ابن كثير، السيرة النبوية:4/404)، فهل يتصوّر أن يوصى المسلمين بالتمسك بالكتاب، ولا يُعنى بجمعه وترتيبه، وتدوينه، حتى يمنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وحتى يجعله بذلك فوق الزمن؟
• إن كان القرآن لم يدوّن بعد، ورأى أبوبكر وعمر ضرورة تدوينه، فهل يُعقل أن يُسند هذا الأمر الخطير العظيم إلى شخص واحد يتولاه، فالأمر كان جللا، وكان خطيرا جدّ خطير، وكان يتطلب أن يجمع له السابقون الأولون، ويجمع له الأنصار والمهاجرون، بل يجمع له المسلمون كلهم، ثم تشكل لجنة تضمّ ناسا يكونون موضع ثقة وتقدير عند الجميع، وهم ينجزون هذا العمل العظيم بتعاون الجميع، حتى يكون هذا العمل عملا جماعيا، ولا يكون عملا فرديا، فإن العمل الفردي لن يكون مثل العمل الجماعي في دقّته وجودته، ولن ينال ثقة الجميع.
• وقد كان من سنة الخلفاء الراشدين أنهم ماكانوا يستبدّون بالأمر مثل الملوك، بل كلما حزبهم أمر، أو نابتهم نائبة، جمعوا المهاجرين والأنصار، وطرحوا أمامهم ماحزبهم، وأفسحوا لهم المجال، حتى يبدوا رأيهم، ويشاركوا في دفع ما نابهم، ويساعدوهم في حلّ ما أشكل عليهم. وكلهم كانوا إخوة في الله، ينصح بعضهم لبعض.
• وإن سلّمنا- ولا مبرّر له – أن أبابكر وعمر استبدّا بالأمر، دون القوم، وأسندا جمع القرآن إلى شخص واحد، هو زيد بن ثابت الأنصاري، فماذا فُعِل بماجمعه زيد بن ثابت؟ تقول الروايات إن الصحف التي جمع فيها القرآن كانت عند أبي بك، حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. وهذا يدل على أن تلك الصحف ماانتسخت، وما نشرت، وما وصلت إلى أيدي الناس. بل بقيت حبيس بيت الخلافة، فهل كان هذا الجمع لزينة بيت الخلافة، أم كان للناس، حتى يكون كل شخص مع كتاب الله؟ وإذا كانت تلك الصحف حبيس بيت الخلافة، فماذا فعل الناس؟هل بقوا بغير قرآن؟ أم جمعوا القرآن لأنفسهم مرة أخرى بعد جمع زيد بن ثابت؟ وهل كان هذا الجمع أيضاجمعا فرديا كالسابق، أم كان جمعا جماعيا؟
• ماذاقصد زيد بن ثابت حينما قال: “فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن”؟ وماذا كان عمله؟ وكيف كانت خطته في جمع القرآن؟ وأين ذهبت تلك الصحف التي كان يكتبها كتاب الوحي، كلّما كان يأتي الوحي، وهو منهم؟ فإننا لانسمع لها صدىً في عمل جمع القرآن؟
• ماذا قصد زيد بن ثابت حينما قال: “فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع و الأكتاف والعسب وصدور الرجال”؟ هل كان يُكتب القرآن في أيام الوحي على الرقاع والأكتاف والعسب، واللخاف؟ وهل استُخدمت تلك الأشياء لكتابة القرآن فقط، أم استخدمت لكتابة أشياء أخرى غيرالقرآن؟ هل كتبت المعلقات العشر، أو قصائد فحول الشعراءعلى العسب واللخاف؟ هل كانت العهود والمواثيق بين القبائل، وبين المسلمين واليهود، وبين المسلمين وقرى، كلها كانت تكتب على الرقاع والأكتاف؟
أي شيء كان يكتب على الرقاع والأكتاف، وعلى العسب واللخاف حتى يكتب عليها القرآن؟ إن هذه الأشياء ماكانت تعتبر من أدوات الكتابة عند العرب، وما كتبوا عليها شيئا فكيف بالقرآن؟
• القرآن أرشد المؤمنين إلى أحسن شيء يكتبون عليه القرآن، حينما قال: وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
والرق كان عندهم متوفرا، وهو جلد رقيق يكتب فيه، وكان أسهل في الكتابة، وأسهل في القراءة، وأسهل في الترتيب، وأسهل في المراجعة، وأسهل في الحمل والنقل، فماالذي صرف المسلمين عن الرق إلى غيره؟
والعرب كانوا يستعملونه عادة، وكانوا يذكرونه في شعرهم، كما قال الأخنس بن شهاب التغلبي:
لاِبْنَةِ حِطَّانَ بنِ عَوْفٍ مَنازِلٌ ** كما رَقَّشَ العُنْوانَ في الرّقّ كاتِبُ
(المفضليات :1/36)
وقال طرفة بن العبد:
كسطور الرق رقشه ** بالضحى مرقش بشمه
(الأمالي في لغة العرب: 2/250)
وقال آخر:
يَحوكُهما ذَهبٌ في لُجَيْنٍ … كمَشْقِك في الرَّقِّ خَطّاً دَقِيقَا
(الشمشاطي، الأنوار ومحاسن الأشعار: 1/111)
• وماذا قصد زيد بن ثابت؟ حينما قال: “حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره  لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم  إلى آخرهما”. هل نسي المسلمون كلهم، وفيهم أبوبكر وعمر! وفيهم عثمان وعلي! وفيهم مئات من الصحابة، الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وكانوا يحيون لياليهم بالقرآن؟! هل نسي هؤلاء كلهم تلك الآية- الآية التي كانت أعذب وأحلى من العسل، وكانت أسنى من القمر في ليلة البدر؟! وإن نسي المسلمون كلهم تلك الآية الحلوة الجميلة، فمن يضمن ألا يكونوا قد نسوا غيرها؟

رواية ابن حبان في جمع القرآن
تلك إشكالات تحف بروايات رواها البخاري في جمع القرآن وتدوينه، وروى ابن حبان أيضا مثلم اروى البخاري، وزاد في روايته مالم يذكره البخاري، فنحذف منهاما ورد في رواية البخاري، ونثبت الزيادة، قال ابن حبان: قال إبراهيم بن سعد : وحدثني ابن شهاب عن أنس بن مالك أن حذيفة قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام وأهل العراق وفتح أرمينية وأذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى فبعث عثمان إلى حفصة: أن أرسلي الصحف لننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فبعثت بها إليه فدعا زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص وأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف وقال لهم : ما اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم وكتب الصحف في المصاحف وبعث إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر مما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يمحى أو يحرق
قال ابن شهاب : فأخبرني خارجة بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت المصحف كنت أسمع رسول الله  يقرؤها فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري  من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه  فألحقتها في سورتها في المصحف
قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في ( التابوت ) فقال زيد : التابوه وقال ابن الزبير و سعيد بن العاص: التابوت فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله عليه فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه لسان قريش. (صحيح ابن حبان: 10/359/4506)
ذلك شطر من رواية ابن حبان، ومن يقف عند هذا الشطر الثاني من الرواية، وينعم النظر فيها تختلج في ذهنه عدة إشكالات، وهي كما يلي:

تساؤلات وإشكالات
• جمع زيد بن ثابت القرآن في عهد أبي بكر ففقد آخر سورة براءة، ولم يجدها إلا عند خزيمة الأنصاري، ما وجدها عند غيره! ثم حينما عاد إلى تلك الصحف في عهد عثمان بن عفان لينسخها، فقد مرة أخرى آية من سورة الأحزاب، كان يسمع رسول الله يقرؤها، فالتمسها فوجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، فألحقها في سورتها في المصحف! أهكذا كان الأمر؟ أمر ليس فيه شيء من المسئوليّة والجدّية! وإن كان الأمر هكذا فمن يضمن لنا الصحة والدقة في جمع القرآن؟ ومن يستطيع أن يلجم الأعداء،إن بسطوا ألسنتهم إلى القرآن بسوء؟
• حينما أمر عثمان بنسخ المصاحف، شكل لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص، وقال لهم: “ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم ” وهذا يعني أن القرآن مازال موضع اختلاف، وموضع نقاش إلى عهد عثمان! وهولمّا يأخذ شكله النهائي، وقد مضى على وفاة من نزل عليه أكثر من خمسة عشر عاما! وقد حدث ذلك فعلا، قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: التابوه، وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص: التابوت. فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله عليه فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه لسان قريش. وأيضا تذكر لنا الروايات عن زيد بن ثابت أنه قال: ” فلما فرغتُ عرضته عَرْضةً، فلم أجد فيه هذه الآية:  مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا  [سورة الأحزاب: 23] قال: فاستعرضتُ المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدْها عند أحد منهم، ثم استعرضتُ الأنصارَ أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم،، حتى وجدُتها عند خُزيمة بن ثابت، فكتبتها، ثم عرَضته عَرضَةً أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين:  لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  [سورة التوبة: 128، 129] فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصارَ أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رَجل آخر يدعى خُزيمة أيضًا، فأثبتها في آخر “براءة”، ولو تمَتْ ثلاثُ آيات لجعلتها سورة على حِدَةٍ.” (تفسير الطبري: 1/60-61) هكذا، بهذه السهولة: لجعلتها سورة على حِدَةٍ !! كأن السور في القرآن ليست من صنع الله، ولم تزل في الأمر سعة إلى عهد عثمان أن تضاف سورة إلى سور القرآن!! وتلك الإضافة لاتحتاج إلى سلطان، بل يمكن أن يفعلها من كُلّف بجمع القرآن!!
• وماالاختلاف الذي حدث بين المسلمين، أي: بين الصحابة وتلاميذهم في قراءة القرآن، حتى اضطر عثمان إلى أن أمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يمحى أو يحرق ؟!

رأي ابن جرير في سبعة أحرف
قال أبو جعفر الطبري بعد ماسرد جمعا من الروايات التي وردت في نزول القرآن على سبعة أحرف، وبعد ماذكر مافعله عثمان في شأن تلك الأحرف:
“وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتابُ، والآثار الدالة على أن إمامَ المسلمين وأميرَ المؤمنين عثمانَ بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين – نظرًا منه لهم، وإشفاقًا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حِذارَ الردّةِ من بعضهم بعدَ الإسلامَ، والدّخولِ في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضَره وفي عصره التكذيبُ ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله  من رسول الله  النهيَ عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أنّ المِراء فيها كفر- فحملهم رحمةُ الله عليه، إذْ رأى ذلك ظاهرًا بينهم في عصره، ولحَدَاثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله  إياهم بما أمِنَ عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن – على حرف واحد. وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وحَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه، أن يحرقه. فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها. فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. (جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري:1/63-64)

لاوجه للقول بإلغاء الأحرف
ذلك ماقاله الطبري في أمرحرق المصاحف. تلك وجهة نظره، وهناك وجهات أخرى في الموضوع، والمقام لايتسع لتفصيلها، ولكن ليس من المعقول أبدا القول بإلغاء عثمان لستّ قراءات نزل بهاالقرآن، ولوكان بمشورة الصحابة أجمعين. فالشيء الذي شرعه الله، لاينسخه غير الله، والصحابة عن آخرهم لم تكن عندهم صلاحيات النسخ لشرع الله! وما كان الصحابة ليجتمعوا على إلغاء قراءة شرعها منزل القرآن. والقراءة إذا كانت قراءة القرآن، وقد شرعها منزل القرآن، فلن تكون فتنة للناس، ولن تكون موضع حرب وخصومة بين الناس. وإن رأينا رأي العين أن تلك القراءات أصبحت تهدد وحدة الأمة، وتهدد سلامتها فلنعلم أننا كنا في غرور، وأنها لم تكن من عندالله العليم الخبير، الذي لم يشرع أبدا لعباده شيئا، إلا إذا كان خيرا لهم في معاشهم ومعادهم. ولا بد أن تكون لنا وقفة عند ما رواه ابن جرير عن زيد بن ثابت، حيث قال: “ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء. فردَّها إليها، وطابت نفسه، وأمرَ الناس أن يكتبوا مصاحفَ. فلما ماتت حفصةُ أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها فغسلتْ غسلا.” (تفسير الطبري:1/61)
فإذا كان مصحف عثمان موافقا لصحيفة أبي بكر، ولم يختلفا في شيء، فما الذي دعاه إلى أن يرسل إلى عبدالله بن عمر في الصحيفة بعزمة بعد وفاة أم المؤمنين، وماالذي حمله على أن يغسلها غسلا ؟! نحن لا نتهم سيدنا عثمان بن عفان في شيء، كما لا نتهم سيدنا زيد بن ثابت في شيء، كيف؟ ونحن لا نساوي غبار أقدامهم؟! ولو وجدنا غبار أقدامهم، لطيّبنا به ثيابنا، وكحّلنا به عيوننا! ويكفيهما شرفا أن ربهما رفعهما مكانا عليا! واختارهما لصحبة نبيه، وخدمة دينه.

القصة مدخولة، والرواية غير محفوظة
وإنما نريد أن نقول فقط إن تلك القصة مع ذيوعها، وانتشارها، ورواجها عند أهل العلم غير محفوظة، وغير موثوق بها؛ فقداختلط فيها الحابل بالنابل، والتبس فيها الحق بالباطل، فهي في صورتها الموجودة أقرب إلى الكذب منها إلى الصدق.
والقصة في جميع طرقها ما جاءت إلا عن الزهري، والزهري كانت عنده مشاكل، وكانت عنده بلايا، حيث كان يدرج كلامه في الأحاديث، ولم يكن معنيّا بالصحة والدقة في روايتها، فقد روي الذهبي عنه قال: كان ابن عباس يقول: خمس يورثن النسيان: أكل التفاح، والبول في الماء الراكد، والحجامة في القفا، وإلقاء القملة في التراب، وسؤر الفأرة.
وقال أبو ضمرة: حدثنا عبيدالله بن عمر، رأيت ابن شهاب يؤتي بالكتاب ما يقرأه ولا يقرأ عليه، فنقول: نأخذ هذا عنك؟ فيقول: نعم. فيأخذونه وما قرأه ولا يرونه.
وقال يونس بن محمد: حدثنا أبو أويس، سألت الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث، فقال: إن هذا يجوز في القرآن، فكيف به في الحديث؟ إذا أصيب معنى الحديث، ولم يحلّ به حراما، ولم يحرّم به حلالا، فلا بأس، وذلك إذا أصيب معناه. (الذهبي، سير أعلام النبلاء: 5/ 344-347 )
أي تقديم أو تأخير يجوز في القرآن؟ ومن الذي أجاز هذا التقديم أوالتأخير؟ وكيف يصاب المعنى مع التقديم والتأخير؟ ألا يكون للتقديم والتأخير تأثير في المعنى؟
وذكروا عن الليث بن سعد، فقيه مصر، وهومن أصحاب الإمام مالك، أنه ترك ابن شهاب الزهري، وانصرف عنه، فأرسل إليه الإمام مالك، رسالة أنكر عليه فيها تركه للزهري، فردّ عليه الإمام الليث، وكتب في رسالته القيمة المستفيضة عن ابن شهاب الزهري مايلي:
“وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير اذا لقيناه، واذا كاتبه بعضنا، فربما كتب إليه في الشيء الواحد، على فضل رأيه وعلمه، بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرتَ تركي إياه.” (ابن القيم، إعلام الموقعين، رسالة الليث إلى مالك:3/85) وإذاً، فالروايات التي جاءت في جمع القرآن وتدوينه، كلها عن الزهري، وهي لاتصلح أبدا لأن تكون عمدة لنا في أمر جمع القرآن وتدوينه. فإن الزهري ليس بذاك. وفيها من المناكير الكبر، ومن الإشكالات العُضال، مارأينا وعرفنا. ولماذا تلك الروايات كلها عن الزهري، وعن زيد بن ثابت فقط؟ فإن أمر جمع القرآن وتدوينه ماكان يخصهما، وكان المفروض أن تأتي تلك الروايات عن جمع من الصحابة والتابعين.

دُوّن القرآن في حياة الرسول
وعلى أية حال فالروايات التي وصلت إلينا عن جمع القرآن وتدوينه ليست محفوظة، فإنه خلاف الأصل، وخلاف الواقع أن يذهب رسول الله، والقرآن في صورة أجزاء مبثوثة، وصحف متفرقة، لا،بل في العسب، والكرانيف، واللخاف، والرقاع، وقطع الأديم، وعظام الأكتاف والأضلاع من الشياه والإبل! فهي مظنة للضياع.
والحق أن رسولنا عليه الصلاة والسلام مافارق الدنيا إلا بعد مادوّن القرآن وحصّنه، وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.

رواية تفيد ذلك
ولنا العبرة فيما رواه البخاري، قال: حدثنا معلى بن أسد حدثنا عبد الله بن المثنى قال حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس بن مالك قال: مات النبي صلى الله عليه و سلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد . قال ونحن ورثناه. (صحيح البخاري، باب القراء من أصحاب النبي:4/1913/4718) فهؤلاء الأربعة جمعوا القرآن في حياة النبي ، بشهادة أنس بن مالك، وه ووأهله ورثوا مصحف أبي زيد لقرابة بينهم.

رواية أخرى
وممايدل على تدوين القرآن في حياة الرسول مارواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن عمرو البزار ثنا هدبة بن خالد ثنا مبارك بن فضالة عن أبي محرز: أن عثمان بن أبي العاص وفد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مع نا س من ثقيف فدخلوا على النبي  فقالوا له: احفظ علينا متاعنا أو ركابنا فقال : على أنكم إذا خرجتم انتظرتموني حتى أخرج من عند رسول الله  قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه واستعملني عليهم وجعلني إمامهم وأنا أصغرهم.
(المعجم الكبير للطبراني، باب: عثمان بن أبي العاص كان ينزل:9/61/8393)
ومثله مارواه أبونعيم، قال: “عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبيد بن دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن مضر ، وفد إلى رسول الله  وهو ابن سبع وعشرين في أناس من ثقيف ، فسأله مصحفا فأعطاه ، وأمره على الطائف.” (معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني ،باب:من اسمه عثمان:14/86)
تلك الرواية نص واضح في أن القرآن كان مجموعا مرتبا، مدونا بين الدفتين في حياة رسول الله، فإن لفظ المصحف لايطلق إلا على كامل القرآن، المجموع بين الدفتين.
قال الزبيدي: “لأَنَّه في المعنَي مَأْخُوذ من أُصْحِفَ ، بالضَّمِّ : أَيْ جُعلَتْ فيه الصُّحُفُ المكْتُوبةُ بين الدَّفَّتَيْن ، وجُمعَتْ فيه.” (تاج العروس:ص ح ف)
وأيضا تفيد الرواية أن رسول الله كان يحتفظ عنده بنسخ زائدة من المصاحف، وإذا جاءته الوفود، كان يجودعليهم بها، فهم كانوا يذهبون بها إلى قومهم، وكانوا يستنسخونها، ثم ينشرونها بين الناس.

رواية أخرى ثالثة
وقال أبوجعفر الطحاوي:
حدثنا فهد، قال: حدثنا يوسف بن البهلول ، قال: حدثنا سليمان بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس بن حذيفة، عن جده أوس بن حذيفة، قال: وفدت في وفد ثقيف إلى رسول الله ، فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول الله  بني مالك في قبة له، فكان ينصرف علينا النبي  بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام…، فلما كان ذات ليلة أبطأ علينا عن الوقت الذي كان يأتي فيه، فقلت: أبطأت علينا الليلة فقال:
« إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس بن حذيفة: فسألت أصحاب رسول الله : كيف تحزّبون القرآن؟
قالوا : ثلاثا، وخمسا، وسبعا، وتسعا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.
قال أبو جعفر: قال أبو خالد وهو سليمان بن حيان، فنظرنا فيه،
فإذا ثلاث سور من أول القرآن: البقرة وآل عمران والنساء.
والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
والسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
والتسع: بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. والإحدى عشرة: الطواسين والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.
والثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وحم يعني آل حاميم ، وسورة محمد والفتح والحجرات.
وحزب المفصل. قال أبو جعفر ففيما روينا من هذه الآثار تحقيق أمر الحجرات أنها ليست من المفصل وأن المفصل ما بعدها إلى آخر القرآن. (مشكل الآثار للطحاوي، باب:إنه طرأ علي حزبي من القرآن: 3/386/1171)
تلك رواية مشهورة رواهاعدّة من أصحاب السنن، وهي تدل على أن أصحاب رسول الله قد قسّموا القرآن إلى أحزاب، وكان لكل يوم حزب، أي: قدرمعين، أو عدد معين من السور، وهم كانوا يلتزمون به، وكانوا يختمون القرآن عادة في كل أسبوع.
وأحزابهم كانت على نفس الترتيب الذي يوجد في مصاحفنا، وهذا الحزب، وهذا الترتيب حجة قاطعة على أن القرآن كان مجمعا، ومرتبا، ومدونا كمثله في أيامنا، وكانت بيوت الصحابة كلهاعامرة بها.

رواية أخرى رابعة
وممايدل على تدوين القرآن في حياة رسول الله مارواه أهل الجوامع والسنن:
قال رسول الله –  – (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناتهِ بعد موته علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) حسن ابن ماجه وابن خزيمة.(صحيح كنوز السنة النبوية: 1/68)
الشاهد في الحديث أن الحثّ على توريث المصحف لايكون إلا بعد جمع القرآن وتدوينه، فإن لفظ المصحف لايطلق إلا على القرآن المجموع بين الدفتين، فإذاحثّ رسول الله على توريث المصحف، فهي حجة واضحة ساطعة على أن القرآن قد أخذ صورة المصحف، وكان يوجد في حالة تجري الوراثة فيها.

بيان القرآن عن نفسه
وبعد هذه الجولة الشيقة الممتعة في أجواء الصحاح والسنن والجوامع، نرجع إلى القرآن نفسه، حتى نسمع ماذا يقول في شأنه، فإذاهو يلقي القول الفصل في الموضوع، قال تعالى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)
تلك الآيات واضحة في أن الله  أخذ على نفسه، أنه يتولى جمع القرآن، وقراءته، وتبيينه كلما احتاج إلى بيان. وأمر النبي أن يتبع قرآنه، إذاقرأه.
وهذا يعني أن القرآن يجمع حسب أمر الله، وإرشاده، كما يعني أنه يجمع في حياة النبي ، حتى يقرأه كما يرشده.

كلمة وجيهة قيمة للفراهي
قال الفراهي في ضمن حديثه عن تلك الآيات:
“اعلم أن الله تعالى وعد بحفظ القرآن مرارا، إجمالا وتفصيلا، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) أي: إنه مصون عن الزيادة. وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) وهذا قول في غاية الصراحة بنفي النقصان والتغير، مع الدلالة على نفي الزيادة أيضا؛ فإن كل واحد من هذه الثلاث يخالف حفظ كلام الله، وهذا أمر ظاهر.
ويزيد  فيقول: ” فلايخفى عليك أن قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) يحتوي على ثلاثة أمور:
الأول: أن القرآن يجمع في عهد النبي، ويقرأعليه بنسق واحد، فإنه لو أنجز هذا الوعد بعد عهد النبي لم يأمره باتباعه، وذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ.
والثاني: أن النبي مأمور بالقراءة حسب هذه القراءة الثانية التي تكون بعدالجمع، وليس للنبي أن يلقى عليه شيء من الوحي، ولايبلغه الأمة، حيث أمره الله تعالى، فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. وقوله تعالى: (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) عام، فكل ماأنزل إلى الرسول من أمر الرسالة، لابد أن يبلغه الأمة، ونظم القرآن وترتيبه منه، فكيف يترك تبليغه، وهو مما أنزل إليه؟ فلا شك في أن النبي  علّم الأمة قراءة السور بنسق آياتها.
والثالث: أن بعد هذاالجمع والترتيب بين الله ماشاء بيانه، من التعميم، والتخصيص، والتكميل، والتخفيف. وقد علمنا وقوع هذه الأمور الثلاث، فإن النبي كان يقرأ عليهم سورة القرآن كاملة، وهذا لايكون إلا بعد أن قرئ عليه بنسق خاص، فأخذوهامنه، وكان يأمرهم بوضع الآيات بمحلها اللائق بها، ثم بعد ذلك إذا أنزلت عليه آيات مبينة ضمّها إلى القرآن.
فترى هذه المبينات ربما وضعت بجنب ماتبينه، وأحيانا في آخر السورة، إن كانت متعلقة بعمودها، وترى في أكثر هذه الآيات تصريحا بأنها بيان من الله تعالى، كقوله عزّ من قائل: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
ثم عرض عليه جبريل الأمين عرضة أخيرة، بعد تمام القرآن، كماجاء في الخبر الصحيح المتفق عليه، فجاءه القرآن بتمامه، مرتّب السور، فكانت مواقع السور فيه، مثل مواقع الآيات مما ألقي عليه، وعلّم الأمة، كما تلقى من الروح الأمين. (عبدالحميد الفراهي، تفسير سورة القيامة:231-233)

ماذا فعل الشيخان في أمر القرآن؟
وإذاً، فالحكاية التي جاءت بها الروايات، عن جمع القرآن وتدوينه في عهد أبي بكر، على يد زيد بن ثابت، باقتراح عمربن الخطاب، حكاية مصنوعة من أولها إلى آخرها، والأمة الإسلامية لم تجن من تلك الحكاية المزوّرة إلا أُكُلا خمطا، وثمارا مُرّةعلى عبر تاريخها الطويل!
فهي التي جعلت القرآن تحوم حوله الشبهات، وأدّت الأمة الإسلامية إلى فرقة وشتات، وحوّلتهم إلى فرق وأحزاب يكيد بعضها لبعض!
والواقع أن سيدنا أبابكر، وسيدنا عمر ما فعلا بعد وفاة رسول الله في القرآن شيئا، فإنهما وجداه مجموعا، ومرتبا، ومدوّنا، ومحصّنا على أحسن مايكون، ورسول الله هو الذي أنجز هذا العمل بكل جدّ وحرص، وبكل دقّة وعناية، وما ترك لمن يأتي بعده إلا أن يتعلمه، ويعلّمه، ويبلّغه إلى من لم يبلغه.
وماكان على الشيخين بعد ذلك إلا أن يملآ الآفاق بنسخ القرآن الذي تركه رسول الله  مرتبا، ومدوّنا فيهم، وقد فعلا ذلك فعلاً، حتى امتلأت بها القرى والمدن، ومابقي بيت من بيوت المسلمين إلا وهو يملك نسخا من القرآن.
ومابقيت قرية من قراهم إلا وأقاما فيهامراكز ومدارس يحفّظ فيها القرآن ويعلّم، حتى كان القرآن هو الذي يُسمع صوته، وتُشمّ رائحته، ويُؤنس إشراقه، وبريقه في قرى المسلمين.

كلمة وجيهة موفّقة لابن حزم قال الإمام ابن حزم، وكان صادقا، وموفّقا فيما قال:
“مات رسول الله  والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم مارا إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه مارا إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله عز و جل كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة. كلهم قد أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قرأ فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله  والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء اصلا بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة.
ثم ولى أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزى فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس المصاحف كأبي عمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد وابن مسعود وسائر الناس في البلاد فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف ثم مات  والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء اصلا أمة واحدة ومقالة واحدة …
ثم مات أبو بكر وولى عمر ففتحت بلاد الفرس طولا وعرضا وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقا وغربا وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهر والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة.
وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر، أكثرمن مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فما بين ذلك، فلم يكن أقلّ.
ثم ولى عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثنى عشر عاما حتى مات وبموته حصل الاختلاف.” (ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2/66-67)

نوعيّة ما فعله عثمان في خدمة القرآن
فسيدنا عثمان لم يبتدع في القرآن شيئا، ولم يُلغِ منه حرفا. والخلافات التي نجمت قرونها بين المسلمين، والتي وردت بها الروايات، لا تتصل بالقراءات المشروعة من الله، وإنما كان أعداء الإسلام يريدون أن يدسوا في كتاب الله ما ليس منه.
وربما جاءوا بقرآن فيه زيادات، وفيه تحريفات، وفيه تقديم و تأخير، وأرادوا أن يروّجوه في أمة الإسلام، فإنهم ماكانوا يحبون أن يبقى لنا قرآننا محفوظا محصّنا، وقد ضيّعوا كتبهم من التوراة والإنجيل!
بالإضافة إلى ماكانت تغلي به صدورهم من العداوة والبغضاء ضدّ المسلمين الذين فتحوا بلادهم، وأزالوا سلطانهم، وهم كانوا يدركون جيدا أن سرّ قوة المسلمين و شوكتهم هو قرآنهم. فإن استطاعوا أن يفسدوا عليهم قرآنهم بالتبديل والتحريف، واستطاعوا أن يشغلوهم، بعضهم ببعض في شأن القرآن، عاد إليهم ماذهب عنهم من ملكهم وسلطانهم.
كانت تلك خطتهم، وكانت خطة رهيبة مدمرة! وهكذا انتشر في المسلمين قرآنان، قرآن منزل من عندالله، وموافق لما في اللوح المحفوظ، وقرآن فيه تحريف وتصحيف، وتبديل وتضليل!
وربما كانت نسخة من القرآن الذي جاء به محمد بن عبدالله، في مقابل نسخ متعددة كثيرة للقرآن المحرّف، أو المفترى !
والجو كان صالحا وملائما لمثل هذه الفتنة، حيث دخلت في الإسلام أفواج وأفواج من العجم، يتلو بعضهم بعضا، وهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وما ذاقوا طعم الإسلام، وماعرفوا من القرآن إلا اسمه، ورسمه. فما كانوا قادرين على أن يفرقوا بين الغث والسمين، وماكانوا يملكون أن يدركوا ماهو الخالص النقيّ، وماهو المشوب المغشوش، وهكذا دهت المسلمين فتنة عمياء صماء، وهم في غفلة عنها، فما راعهم إلا أن استشرى داؤها، وتفاقم أمرها، وأفزع الصحابة شرها، وأقلق خليفة المسلمين خطرها، فكان أن أرسل أمير المؤمنين عثمان بن عفان بمشورة من علماء الصحابة، وكبارهم، إلى كل إقليم من أقاليم الإسلام نسخة من القرآن مختومة بختم الخلافة، حتى يكون هو الحكم، والمرجع المعتمد في موطن الخلاف!
وكان ذلك توفيقا من الله، حيث واجه الخليفة الراشد تلك الفتنة العمياء بحكمة ولباقة، وعالجها علاجا سريعا حاسما، فجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء.


هذا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رابط البحث على موقع أهل التفسير

شارك:

مقالات ذات صلة:

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

باحـــث دكتــــــوراة فـــي الدراســـــات الإسلاميـــــة
كـاتب وباحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top