سوريا.. الطريق إلى “حدود الدم”

سوريا.. الطريق إلى “حدود الدم”

ايمن قاسم الرفاعي                                                                            26/01/2014م

m1

 

( 1 )

العالم يريد 10 سنوات أخرى من الدم السوري المسفوح

لقد تحولت الثورة السورية بفعل التدخلات والتداخلات الدولية إلى أكبر أزمة سياسية إنسانية إقليمية وعالمية منذ الحرب العالمية الثانية، ويزداد عظم المأساة أن بات السوريون بمختلف توجهاتهم سواء المعارضة أم النظام منفعلين في هذه الأزمة وغير فاعلين حتى في أضيق شؤونهم الداخلية (الاحتياجات الأساسية والإنسانية للسوريين في الداخل وفي بلاد اللجوء)، وإن المراقب الحاذق للحراك الدبلوماسي والفعل السياسي الدولي والإقليمي بشأن القضية السورية برمتها يستطيع تلمس أن ثمة حلقة مفقودة دائماً في كل لقاء أو مؤتمر أو مبادرة على مر السنوات الثلاث من عمر هذه الثورة، ألا وهي غياب القناعة الكافية بإمكانية الحل الشامل للصراع (رغم بساطته) والتركيز فقط على نقاط الخلاف وتأجيجها تحت مسمى (تسوية الخلافات) أو طرح حلول جزئية مؤقتة هي في الحقيقة عقبة أمام الحل الشامل أكثر مما هي حلول مساعدة له تحت مسمى (فرص التقارب)، وسواء أكان ذلك بطرق مباشرة أم غير مباشرة فإن اللاعب الأساسي المتحكم بذلك دائما هو الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم الوسطاء السياسيون الإقليميون والدوليون الآخرون  والذين هم أصحاب القرار الحقيقيون بالنيابة عن  طرفي الصراع السوري من المعارضة والنظام، فنرى دائما عوضاً عن التركيز على نقاط قد يلتقي فيها طرفي الصراع تحت مظلمة المصلحة الوطنية العليا أو حتى الواقع المتداخل الذي لا مفر منه لكليهما والذي يمكن أن يكون عامل إجبار لهما بعيداً عن أي تأثير خارجي من الأطراف المؤثرة سلباً في هذه النقاط من القوى الإقليمية على كلا الطرفين، يتم دائما الزج بعبارة ضرورة حضور الأطراف الفاعلة من الدول الإقليمية المؤثرة حتى وإن قبل طرفي الصراع الحضور بأنفسهم معاً كما تم في جنيف 2.

إن أحد لا ينكر أنه لو أرادت أمريكا الحل للقضية السورية لتم ذلك لما لا يزال لها من تأثير وقوة سياسية دولية وإقليمية قادرة على فرض واقع يمكِّن السوريين من الإطاحة بنظام الأسد، الذي اعترفت أمريكا نفسها منذ عهد الولاية الأولى لأوباما بسقوط شرعيته لما ارتكبه من جرائم تجعله في مقدمة جزاري وسفاحي البشرية عبر التاريخ، ولا أدل على ذلك من التهديدات المؤثرة التي بلغت ذروتها إبان استعمال السلاح الكيماوي في الغوطة.

فالسؤال؛ لماذا كل هذا التراخي في القضية السورية؟، ولماذا قُدِّر أن يكون هناك مبادرة أو مؤتمر أو تحرك سياسي فاشل كل 4 الى 6  أشهر آخرها جنيف 2؟، بل لماذا كل تلك الاشارات الباعثة على استحالة الحل للقضية السورية، وأنها تحتاج عشر سنوات أخرى كما تسوق أمريكا والغرب دائما؟.

لقد جاء على لسان رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة (الجنرال مارتن ديمبسي) في يوليو 2013م: “إن النزاع في سوريا يتحول إلى قضية إقليمية تتمدد حالياً إلى لبنان والعراق، وأسبابها الكامنة “قد يستغرق حلها نحو 10 سنوات“. كما أصدرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تقريراً مع بداية عام 2014م بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال “يتوقع استمرار الحرب السورية بين القوات النظامية وفصائل المعارضة لعقد آخر على الأقل“، وبذات الفحوى أصدر معهد الدراسات الاستراتيجية الأمريكي في 5/1/2014م تقريراً يقول فيه الخبير المختص بشؤون الشرق الأوسط أندرو تيريل، “أن الحرب الأهلية في سوريا قد تطول لعشر سنوات قادمة“.

فلماذا هذا الدور الدولي السلبي للولايات المتحدة والغرب، وفي مصلحة من يصب، وما المبتغى الحقيقي منه؟.

للإجابة بموضوعية وبتفصيل على هذه الأسئلة سنحتاج إلى العودة إلى الوراء في قراءة سياسية عامة، وتلمس إلى أين يتجه بنا الأمر، وما هي استحقاقات المرحلة التي يجب على السوريين أن يعوها.

( 2 )

ما الحاضر إلا غدٌ أتى به التاريخ بالأمس

إن من لا يقرأ التاريخ “جيداً” لم يملك خطام حاضره يوماً، ولن يقدر أبداً على رسم أثر لأي خطوة له على طريق مستقبله، وإنما سيساق دائماً سوقاً على تضاريس جغرافيا ترسمها أفكار الغير ممن يعقلون التاريخ وفلسفته.

يقول التاريخ؛ أن أمة بأكملها “أوربا” قد سيقت من قبل بضعة رجال “فرسان معبد سليمان – التمبلار“، إلى حروب استمرت مائتي عام (1096 – 1291م) عرفت بالحروب الصليبية، لم يكن لأوربا فيها ناقة ولا جمل إلا ما زرعه هؤلاء الفرسان في قياداتها السياسية والدينية من أوهام وأطماع للسيطرة على قلب عالم الحضارات القديم (بلاد الشام) وانتزاع المدينة المقدسة (القدس) من يد المسلمين، في حين كان الدافع الحقيقي وراء تلك الحروب اعتقادات يهودية باطنية لهؤلاء الفرسان (المتخفين بالمسيحية) لإعادة بناء معبد سليمان ومملكة اليهود في المدينة المقدسة، حيث أسسوا، بعد ما كشف أمرهم وتم تصفية الكثير منهم على يد الكنيسة، ما عرف فيما بعد بحركة البنائين الأحرار (الماسونية).

ويقول التاريخ؛ أن خليفة المسلمين السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني) عزل من منصبه عام 1909م على يد جماعة يهودية (تخفت بالمسيحية من قبل ثم بالإسلام) هم يهود الدونمة من كبار زعماء الماسونية، فقط بسبب رفض ذلك الخليفة بيع فلسطين لليهود لإقامة دولتهم المزعومة فيها، وذلك في سابقة خطيرة أدت إلى اسقاط الخلافة الاسلامية عام 1924م، والتي استمرت لأكثر من 1300 عام، على يد هذه الجماعة اليهودية وحلفائها من الفرنسيين والانكليز والروس.

ويقول التاريخ؛ أن المنطقة العربية من الخلافة الاسلامية قد تقاسمتها فرنسا وبريطانيا بموجب اتفاقية (سايكس – بيكو 1916م) وأخضعتها لسيطرتها الاستعمارية ضاربة بعرض الحائط كل اتفاقاتها وعهودها مع حليفها الذي أعانهم على إسقاط الخلافة العثمانية “الشريف حسين” طمعا في إقامة دولة للعرب برئاسته، بحيث تم تكريس هذه التقسيمات الجديدة والحدود المصطنعة بالتنسيق مع زعماء الحركة الصهيونية والماسونية العالمية لتوفير المناخ الملائم من التفرقة والشرعية السياسية الدولية لاستباحة المنطقة ونهب ثرواتها ولإقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين التي تم الإعلان عن قيامها فعلياً عام 1948م.

ويقول التاريخ؛ أن التغيرات السياسية الكبرى التي أشرنا إليها، وغيرها خلال السبعين سنة المنصرمة كانت دائماً خلفها “مصالح اسرائيل”، الحاضرة دائماً في مقدمة المصالح لأي تحرك أو فعل سياسي تقوم به وريثة السيطرة الاستعمارية القديمة الولايات المتحدة الأمريكية (زعيمة الماسونية) والغرب من خلفها في المنطقة، حيث ترى اليوم هذه القوى الامبريالية أن هذه المصالح لم تكن طيلة الفترة الماضية مؤمنة ومتاحة بشكل كاف لخدمتها ولتحقيق أمن اسرائيل، نتيجة التهديد وعدم إتاحة الظروف اللازمة لاستقرارها من قبل دول “سايكس بيكو العربية”، لذا كان لا بد من تطوير حدود (سايكس بيكو) بحيث يوسع ويرسخ حدود اسرائيل بشكل دائم ونهائي، ويضمن مصالح أكبر وهيمنة أعظم لأمريكا والدول العظمى على المنطقة.

وهذا بالضبط ما صرح به “بريجنسكي” (مستشار الأمن القومي ) إبان حرب الخليج الأولى (العراقية – الإيرانية) عام 1980م، حيث قال” إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس – بيكو“.

وعقب هذا التصريح وبتكليف من “البنتاجون” بدأ المؤرخ الصهيوني “برنارد لويس” بوضع مشروعه الشهير بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية وتفتيت كل منها إلى مجموعات من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، تستطيع من خلالها أمريكا تصحيح حدود سايكس بيكو بحيث يكون هذا التصحيح متسقاً مع المصالح الصهيو- أمريكية، وقد تم الموافقة على هذا المشروع من قبل الكونغرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية عام 1983م في عهد الرئيس “جيمي كارتر”، الذي أعلن عنه فيما بعد في عهد الرئيس “جورج بوش الابن” عام 2004م باسم “مشروع الشرق الأوسط الكبير” ولكن بواجهة مختلفة ومغايرة لحقيقته الفعلية.

( 3 )

مشروع الشرق الأوسط الكبير والأهداف الحقيقية

ولعل من أهم الأهداف التي يرمي لتحقيقها هذا المشروع الذي يعتمد مبدأ “تقسيم المقسم وتفتيت المفتت بالاعتماد على حدود الدم” هي:

  • تصحيح وتحويل الحدود السياسية المصطنعة للدول العربية، والتي لم تضمن قدر كاف من التفرقة فيما بينها بحسب النظرة الغربية، إلى حدود أكثر رسوخ وتفرقة على أساس ديني وطائفي وعرقي تجعل لكل دولة حدودها السياسية الخاصة على أساس من وحدة المذهب او الطائفة او العرق بما عرف بـ “حدود الدم“.
  • تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، من خلال إلغاء وجود دول سايكس بيكو لصالح التقسيم الجديد الذي سيمحو اسم فلسطين من الخارطة السياسية مع ما سيتم محوه من حدود وتسميات سياسية قديمة، وبالتالي فرض واقع سياسي جديد على الفلسطينيين يوجب عليهم الانخراط به في ضوء من الفضاءات السياسية وحدود الدم الجديدة، ويزيح الثقل الأخلاقي والسياسي الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني عن كاهل أمريكا والغرب تجاه ما تمارسه اسرائيل ضد فلسطين والفلسطينيين.
  • خلق المناخ الملائم للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية عنصرية على أرض فلسطين، الأمر الذي تجعله اسرائيل في أولى أولوياتها ولكن الظروف الدولية والإقليمية الحالية تحول دون ذلك، إلا انه وفي مناخ سياسي جديد ووسط دول مقامة على أساس ديني وطائفي وعرقي سيكون للشعب اليهودي الحق الأصيل دولياً في إعلان دولته الدينية العنصرية.
  • إن المحاولات السابقة والحالية في إلغاء حدود سايكس بيكو من قبل أبناء المنطقة سواء تجارب الوحدة العربية الماضية التي باءت كلها بالفشل، أم الحراك الشعبي الواسع الحالي وبخاصة ما يحمله من روح اسلامية والذي كان متوقعاً نتيجة الفساد والكبت والقمع السياسي، والذي يأتي مرافقاً مع تراخي قبضة الهيمنة الامريكية على العالم والنذر الكبيرة على قرب أفولها المترافق مع صعود قوى عظمى جديدة في شرق آسيا، جعل من الضروريإعادة هيكلة هذا التقسيم على أسس أكثر تفتت ورسوخ مبنية على التباينات المستندة إلى الدم والعقيدة، في جو من ظروف التنازع السياسي الذي تتسابق فيه كل الكانتونات الجديدة الى علاقات جيدة مع اسرائيل والغرب على حساب علاقتها مع محيطها الاقليمي والعربي والإسلامي الذي بات لدوداً لمصالحها الخاصة، وذلك لضمان استقرار بلادها ضد اطماع المخالفين لها في الدين او الطائفة او العرق من جيرانها الجدد الأخوة سابقاً، وبالتالي سيطرة أكبر وأعمق سياسياً واقتصادياً لأمريكا والغرب على المنطقة ورسوخ أكبر للحدود والتنازعات الجديدة بين دولها، ولعل هذا ما شرحه ووضع تصوراته ومهد له بشكل أوسع وأوضح صموئيل هنتجتون في كتابه الشهير “صدام الحضارات” وكذلك من قبله فرنسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” والذين يعدان من أهم المفكرين الاستراتيجيين للسياسة الأمريكية وبخاصة وزارة الدفاع فيها.

ولكن يجب أن ننتبه أن أمريكا والغرب ومن قبلهما اسرائيل يعيان جيداً، أنإعادة رسم الحدود لا يحصل بعصا سحرية، ويلزمه قبل حدوثه مناخ ملائم من الوقت الكافي (ولهذا كانت الإشارة إلى عشر سنوات أخرى من النزاع في سوريا) والفعل السياسي الممنهج والصراعات المختلطة بالدم على الأرض، كما أنه لا يمكن لأي عملية تعديل حدود مهما كانت قاسية ان ترضي أية أقلية في الشرق الأوسط، ولكن أهل السياسة يعلمون أنه بحكم النظرة المصلحية الضيقة والتأقلم مع الواقع الجديد، فإنه حتى أولئك الذين يمقتون مسألة تغيير الحدود سينخرطون بفعالية في إعطاء تصور أكثر عدلاً إن بقي الحل ناقصاً في عملية تعديل الحدود.

وهذا ما يراه الكاتب المشهور راف بيترز (والذي شارك في رسم هذه الحدود فعلياً في أفغانستان والعراق لكونه كولونيل سابق في الجيش الأمريكي) في مقاله “حدود الدم” الذي نشره في يونيو عام 2006م في أرمد فورسنر جورنل، حيث يقول:” إن تصحيح الحدود بشكل تعكس فيه قدرة الشعوب، هو أمر قد يكون مستحيلا اليوم، ولكن لأمد ما، وما يرافقه من دماء لن يمكن الحيلولة دون سفكها، ستنبثق حدود جديدة طبيعية، وإلى أن يحين ذلك، سيستمر جيشنا في قتال الارهاب لأجل أمننا ومن أجل السعي نحو الديمقراطية وإيجاد ممر إلى النفط في منطقة كان قدرها أن تتقاتل فيما بينها، إذا لم يكن ممكناً تعديل حدود الشرق الاوسط الكبير بحيث تعكس الروابط الطبيعية المستندة الى الدم والعقيدة، فيجب ان نتقبل حقيقة تنص على ان جزءاً من الدم المسفوح في هذه المنطقة سيكون على حسابنا نحن الأمريكيين”.

( 4 )

إرهاصات وولادة مشروع التقسيم الخطير

ومن خلال نظرة فاحصة للخارطة السياسية للمنطقة خلال ربع القرن المنصرم من بعد إقرار أمريكا لمشروع الشرق الأوسط الكبير، سنرى أن هذا المشروع الكبير والخطير قد تم انجاز الكثير منه حتى الآن، ويمكن إيجاز أهمها بما يلي:

  • انهاء الحرب الأهلية اللبنانية بعد خمس عشرة سنة من الاقتتال الطائفي باتفاق الطائف في السعودية عام 1989م، والذي بني على أساس فكرة المحاصصة الطائفية ونزع فكرة المواطنة ووحدة الانتماء للوطن، وترسيخ فكرة التمييز السياسي على أساس من الدم والعقيدة، الذي سيكون له شان كبير في الفعل السياسي وخارطة لبنان في المستقبل.
  • اندلاع حرب الخليج الثانية (كما دعا لها “بريجنسكي”) عام 1991م والذي فرض واقع جديد في المنطقة مع وجود للقواعد العسكرية الأمريكية وخلق شرخ كبير بين الدول العربية وحتى بين التعايش المذهبي والطائفي والعرقي الذي كان في العراق من خلال ظهور التمرد الكردي في الشمال، ومهد لدخول طرف سياسي جديد صاحب مصالح تاريخية واستراتيجية له فيها ألا وهو ايران التي سيكون لها دور وثقل كبير مستقبلاً.
  • عملية تفجير مبنيي منظمة التجارة العالمية عام 2001م، والتي أصلت لتاريخ وواقع سياسي جديد حمل فيها شعار “محاربة الارهاب” الذي لعب دوراً كبيراً في تغذية روح الاضطهاد السياسي لكل ما هو اسلامي عبر العالم بأسره، وخلق مناخ جديد نتيجة رد الفعل الذي ولد تطرف سياسي تحت شعار الإسلام في مواجهة التطرف السياسي الآخر المعادي للإسلام، وبالتالي فتح المجال لفاعلين جدد على الساحة الاقليمية وحتى الدولية خاصة بعد قرار الحرب على أفغانستان وما رافق تلك الحرب من تغيرات دراماتيكية على خارطة العلاقات السياسية في العالم والمنطقة.
  • الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000م، وخلق جيب شيعي مستقل في لبنان تحت سلطة حزب الله الذي ازدادت هيمنته على لبنان كله حتى فرض سلطته ودانت له الحكومة والدولة بأسرها، وما رافق ذلك من ازدياد الاستقطاب والفرز الطائفي(الذي اسس له اتفاق الطائف مسبقاً) على الأرض وفي أروقة السياسة.
  • حرب العراق عام 2003م وتسليمه لإيران على طبق من فضة وتقسيمه الى مناطق ثلاث، على أساس طائفي بين السنة والشيعة وعرقي بين الأكراد والعرب، مما وسع الشقاق السني الشيعي نتيجة تعاظم دور ايران السياسي في المنطقة تلبية لطموحاتها وأحلامها السياسية التاريخية في الهيمنة على أجزاء من المنطقة وخدمة لمصالح مستترة لأمريكا وإسرائيل والغرب، وبالتالي استفزاز الدول العربية وبخاصة دول الخليج وإذكاء روح التعصب الطائفي والمذهبي، وكذلك ازدياد الطموح الكردي من تحقيق الحلم التاريخي بإيجاد دولة مستقلة تجمع الأكراد بعد تشكيل حكومة إقليم كردستان العراق، وتغذية الشعور العرقي لدى كافة الأكراد (وغيرهم من باقي الأقليات العرقية والدينية والطائفية في المنطقة) والرغبة في الاستقلال في دولة كردية ممتدة على أرض الوجود التاريخي لهم من الأراضي العراقية السورية التركية الإيرانية.
  • تعاظم حركة الحوثيين في اليمن والحروب التي خاضوها مع الجيش اليمني منذ عام 2004م والحصول على ما يشبه الاستقلال في جزء من شمال البلاد كخنجر في الخاصرة الرخوة للسعودية بدعم ومساندة كبيرة من إيران، وكذلك ازدياد وتعاظم الحركة المؤيدة للانفصال في اليمن الجنوبي.
  • الانسحاب الاسرائيلي من غزة عام 2005م، والاقتتال الفلسطيني الذي حدث وتقسيم الأراضي الفلسطينية بين الضفة وغزة عام 2006م، الأمر الذي خلق قبول لفكرة “تفتيت المفتت” على أنه في كثير أحيان حل مرضي للأطراف السياسية وحتى الشعبية في نطاق التنازع السياسي وكذلك الايديولوجي الحاصل بين أبناء الوطن الواحد، وبشكل خاص على القضية الفلسطينية.
  • تقسيم السودان وانفصال الجنوب عنه كدولة مستقلة تهافتت دول العالم على رأسهم الداعم الأكبر لها أمريكا للاعتراف بها مباشرة عام 2011م وإقامة علاقات سياسية رسمية، وذلك من خلال سلاح الديمقراطية الذي تستغله امريكا ولعبة “الاستفتاء على تقرير المصير” التي تعتبر الأداة الاستعمارية الأكثر حضارة لتنفيذ سياسة “فرق تسد” القديمة، الأمر الذي عزز أحلام الكثير من الأقليات وذوو المطامح الانفصالية سواء في السودان أو غيرها، ثم خلق الفتن والأزمات وزاد إضرام النار المستعرة في  معظم مناطق السودان وبخاصة مناطق دارفور والنيل الأزرق وكردفان  في استمرار لمسلسل التقسيم المنشود.
  • دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين عام 2011م بقيادة وحضور أساسي للملكة العربية السعودية بناء على طلب البحرين إثر موجة الاحتجاجات والفوضى التي اجتاحتها، مما رفع من سوية التأزم الطائفي بين السنة والشيعة حتى بلغ مستويات لم يبلغها من قبل، والذي بدت مظاهره في الأحداث التي ولدها تحرك الشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية والذي طالما لوحت به إيران بشكل موارب، وكذلك الممحاكات السياسية الحادة بين الشيعة والسنة التي انعكست على العملية السياسية والانتخابية برمتها في كل من الكويت والعراق، ثم الانعكاس الأخطر الذي جرى على الثورة السورية فيما بعد.

كل هذه الأحداث كما نرى، وغيرها مما يضيق المقام بذكره، كانت تخدم بشكل أساسي فكرة إعادة تشكيل خارطة المنطقة السياسية على أساس من الدم والعقيدة، وكانت تستغل بشكل مباشر وغير مباشر من أمريكا والدول العظمى في تعزيز الشعور الجمعي لشعوب المنطقة بالتمايز الداخلي وضرورة إعادة التفكير في المصلحة المجتمعية على أساس فردي ضيق يؤمن الحماية والتجانس من خلال تكوين شعور التمايز عن الآخر في الوطن ونسف فكرة المواطنة وتعزيز العصبية الدينية والمذهبية والعرقية، وبناء على ذلك قامت أمريكا والدول العظمى بالاستغلال الأمثل لكافة ثورات الربيع العربي، في ظل تاريخ الفساد السياسي الطويل لأنظمتها، وغياب تام للفكر السياسي الناضج لشعوبها والفوضى العارمة لانتشار السلاح وشيوع رائحة الدم في معظم ثوراتها، حيث استغلت هذه الدول تلك الظروف وعملت على إذكاء التفرقة والتنافر وإحلال روح التحزب والتمايز بين أبناء الوطن الواحد سواء على أساس عرقي قبلي كما في ليبيا واليمن او على أساس أيديولوجي فكري كما في تونس ومصر مما أدى إلى حدوث حالة انفصام حقيقية لعرى المجتمعات واستقطاب حاد بين جميع الأطراف ولد التطرف السياسي بمختلف درجاته وأصنافه، وذلك إما من خلال دور وسائل الإعلام التي كانت قوة تدميرية فاعلة لعرى وبنية المجتمعات أكثر من كونها عين للحقيقة، أو من خلال التخطيط السياسي الاستراتيجي وعقد التحالفات والتغرير بالأطراف المتنازعة، والتي أثبتت بحق انها تعاني مراهقة سياسية وتسعى نحو مصالح ضيقة بعيداً تماماً عن الروح الوطنية ومصلحة الوطن.

( 5 )

سوريا حجز الزاوية في رسم حدود الدم

وكما أن لكل مشروع أربع مراحل أساسية يمر بها خلال عملية إنجازه (الدراسة الأولية، التأسيس، البناء، الإنهاء) فإن مشروع إعادة هيكلة الخارطة السياسية للمنطقة كما رأينا قد انجز حتى الآن مرحلتي الدراسة والتأسيس وشرع في مرحلة البناء، حيث تشكل أزمة الثورة السورية فيها حجز الزاوية والمرتكز الأساسي وذلك لعدة اعتبارات:

  • · الموقع الجيوستراتيجي لسوريا في المنطقة، والذي يشكل قلب المشروع التقسيمي المنشود من جهة، ويقع على تماس مباشر مع اسرائيل وبالتالي يحدد هوية الدول المستقبلية التي ستنشأ على حدودها من جهة ثانية.
  • · النظام السياسي الفاسد في سوريا، والمستند إلى البعد الطائفي في الحفاظ على ديمومته كأقلية حاكمة لأكثر من 40 سنة، وما له من ارتباط عضوي وليس سياسي وحسب بالنظام الإيراني الطائفي القائم على أحلام ومطامح تاريخية سياسية في المنطقة مدّعاة من إرث أمجاد حضارته الفارسية المندثرة، والمغلف بأهداف ثأرية نبؤاتية يستثير بها مشاعر الشيعة في كل مكان من العالم حيال مواقفه السياسية ليجعل منها حروب تحت شعار “ثأر الله“، الأمر الذي فتح المجال لأنظمة سياسية أخرى لمحاولة قيادة حربها السياسية مع هذه الأطماع الإيرانية على الأراضي السورية كالمملكة العربية السعودية، وتحويل سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية الدولية.
  • · التنوع الديموغرافي الحضاري السوري الكبير الذي يمتد لآلاف السنين وحتى بداية التاريخ، في استمرارية وتجانس وتعايش غير مسبوق في أي منطقة من العالم، والرهان القائم على ضرب هذا التجانس من خلال استغلال الاختلافات الطبيعية الدينية والطائفية والعرقية ومحاولة نسف انسجامها الطبيعي هذا، وذلك بخلق الظروف السياسية المناسبة (التدخل الخارجي وبخاصة الإيراني) وإتاحة الوقت الكافي لإذكاء روح التفرقة والتناحر والتهديد من خلال ممارسات القمع السادي الممنهج، وسهولة اختراق الثوار وارتكاب الجرائم والممارسات الطائفية باسمهم ثم تضخيم كل ذلك باستخدام ماكينة الإعلام سواء السورية أو العالمية، وكذلك تشريد الناس وتشجيع عمليات النزوح والهجرة والفرز الطائفي العرقي على الأرض، وإفراغ الأرض من سكانها الطبيعيين استعداداً لإعادة التوزيع الديموغرافي الذي يتناسب مع خطة التقسيم المقترحة وفق هذا المشروع، والذي يطرح تقسيم سوريا إلى دويلات متعددة تبعاً للطوائف والأعراق لتصبح الدولة السورية دويلات (العلويين، الدروز، الكراد، سنة متشددين في الشمال، سنة معتدليين في الجنوب، شيعة …)

ولعل ما بلغناه في واقع القضية السورية اليوم يغني عن كثير من التفصيل في الحد الذي بلغه هذا المشروع من النجاح، ولكن الوقت لا يزال باكراً على الخطو نحو فرض التقسيم الرسمي على الأرض والذي يحتاج إلى المزيد من الوقت لتهيئة كل الظروف وجعل أصحاب الأرض هم الذين يقوموا بابتداع هذا التقسيم “كأخف الحلول ضرراً” من الواقع المرير والمستقبل المنعدم المصير الذي يهدد كافة الجماعات السكانية الموجودة على الأرض السورية، وحتى يتم ضمان هذا الاستمرار للنزاع الذي يؤمن الوقت الكافي لتهيئة كافة الظروف المنشودة، سيكون على المتحكمين بالقضية السورية (امريكا والدول الفاعلة) الحفاظ دائما على “توازن قلق” بين طرفي الصراع بحيث لا يتمكن طرف من حسم الأمر لصالحه وبالتالي يرضى بالصفقات السياسية التي تملى عليه لقاء أي دعم على حساب خصمه وعدوه والذي لربما يكون وهمي في غالبيته، مع الاستمرار في تأزيم الوضع أكثر فأكثر وإشاعة قناعة “استحالة الحل الشامل” من خلال زيادة الأطراف المتناحرة على الأرض بالزج بأطراف جديدة (القاعدة والمليشيات الشيعية وحزب الله) او تقسيم الأطراف السورية الموجودة فعلاً وضربها ببعضها البعض وضرب أي نوع من الثقة او التوافق يمكن أن تنشأ فيما بينها، بالإضافة إلى الاصرار على حصر العمل السياسي بالخارج تحت وصاية الدول الداعمة وعزله عن قواعده الشعبية في الداخل والمحاولة الدائمة لإظهاره بالضعف والسذاجة والفساد والتشتت سواء باستخدام رجال غير مناسبين فعلاً أو من خلال ماكينات الإعلام، وبالتالي قتل أي فرصة لوجود قيادة سياسية رشيدة واحدة لها ثقلها الشعبي في الداخل، مما يقطع الطريق امام أي تسوية سياسية شاملة مع قيادة سورية وطنية واحدة، ويكرس الظروف فقط حيال التسويات الجزئية مع اطراف متعددة ذات مصالح دينية طائفية عرقية ضيقة.

ختاماً، إن هذه المحاولة للقراءة السياسية للوضع بشكل عام ليست من قبيل متلازمة “نظرية المؤامرة” أو من باب التشاؤم أو حتى محاولة قرار هذا المشروع الشهير والخطير والتسليم به، وإنما من باب الموضوعية والواقعية المبنية على حقائق والتي يجب أن نتحلى بها بعيداً عن التفكير المرحلي الضيق والبصر وحيد الرؤية المجزأ، وبعيداً عن الآمال والأحلام الوردية التي فرضتها علينا الآلام والليالي السوداء التي كابدناها، وليس نعني بذلك أن علينا محاربة أي تحرك سياسي مرحلي يتم خوفاً من الكيد السياسي والاستدراج، ولكن علينا ان نعي أن جميع النشاطات السياسية التي تجري هي ضرورة ومفروضة ولا يمكن التهرب منها جملة واحدة، ولكن ما يجب فعله كسوريين هو أن نضعها موضعها ولا نعلق عليها آمال كبير تنهار بنا في مستنقع السذاجة السياسية، والسعي ومحاولة الحصول منها على أعلى مكاسب قد يكون لها أثر في قطع الطريق على هذا المشروع الخطير، مما سيستلزم ان نكون بحجم التهديد ورجالاً للمرحلة، وان نعالج الفعل السياسي في ضوء هذا الفهم للواقع وببصيرة واعية للمصالح السياسية المتشابكة والتي هي المسيّر الحقيقي لتعقيدات هذه القضية، وأن نُعّد أنفسنا ومشاريعنا بإستراتيجية النفس الطويل لأن هناك وقت طويل قد يمتد لعشر سنوات وأكثر من المعاناة سيفرض علينا وعلى شعبنا بالداخل أن نحياه وهذا هو التحدي الذي إما ان نكون له بأهل أو فلنتركه لأهله.

شارك:

مقالات ذات صلة:

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

باحـــث دكتــــــوراة فـــي الدراســـــات الإسلاميـــــة
كـاتب وباحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top