المعجزة المهجورة – الجزء الثاني:  البارادايم المَرَضِي

المعجزة المهجورة – الجزء الثاني:  البارادايم المَرَضِي

رأينا في الجزء الأول من هذا المقال، توصيف لظواهر ذلك المنهج العقيم في التناول والتعاطي مع القرآن الكريم والذي قد أودى بنا كأمة إلى التخلف والانحطاط وجعلنا نخسر القرآن كقوة محركة لتطوير أنفسنا ومجتمعاتنا عندما عطلنا معجزته وهجرنا رسالته. إن هذا المنهج والذي أسميناه باسم (البارادايم المَرَضِي)، وحددنا أنه يستند في تشخيصه إلى خمسة أسس هي بمثابة القيود التي أدت إلى تكبيل القرآن وتحييده من حياة هذه الأمة، سنحاول في هذا الجزء مناقشة هذه الأسس ودورها في وجود هذا المنهج العقيم ونموذجه للإدراك والتفكير المعتل.

1. القدسية الكهنوتية:

إن قدسية القرآن الإلهية تتنزل على قلب المسلم القارئ للقرآن الواعي بأن الله هو من يكلمه من خلال آخر كتبه السماوية وخاتم رسالاته. فهو يستحضر بذلك بشكل حي كلما تعرض للقرآن مشاعر الخشوع وإحساس القداسة والعظمة أمام ألفاظ التنزيل الحكيم ومعاني آياته ومقاصد مواضيعه، وقبل ذلك كله هيبة منزله سبحانه وتعالى وهو يكلمه مباشرة من خلالها. لذلك يُعْمِل المؤمنُ أدوات العقل والفهم لديه في هذا القرآن تحقيقاً لقوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ) (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، ثم إذما وعى وتحقق له الفهم نهض برسالته التي أرادها الله منه وأداها في ضوء أمانة الاستخلاف - التي حملها واشفقت منها السماوات والأرض والجبال - لتطبيق قوانين وسنن الله التي بثها في كتابه وفي خلقه، على الكيفية التي أراد الله لكتابه أن يمضي بها بين عباده.

لكن حين باتت هذه القدسية اليوم محرفة من قدسية إلهية إلى قدسية كهنوتية بفعل ما تم ترسيخه عبر السنين من مفاهيم ونصوص مهيمنة باسم الدين على القرآن الكريم وباسم القرآن على القرآن نفسه أحياناً. فإن هذه القدسية المحرفة أضحت وقد رفعت المعنى عن النص الأصلي (القرآن) وأسبغته على النص الموازي (كل ما أوجده رجال الدين من مرويات وتفاسير وآراء فقهية)، فأصبح الأصل (القرآن) الذي هو ثابت ومحكم في مبناه ومطلق ومتطور في معناه عبارة عن رسم جامد بلا معنى في الأذهان، إلا بقدر المعنى الذي يهيمن عليه النص الموازي  والذي هو متغير وواهي في مبناه وثابت وقاصر في معناه.

حيث تحول هذا النص الموازي بفعل القدسية الكهنوتية تلك إلى المعنى المقصود والقصد المراد في كتاب الله الذي لا محيد عنه للمسلمين بناء على الفتاوى ذات العدد (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)(1) ، (القرآن أحوجُ إلى السنّة من السنّة إلى القرآن)(2)  وغيرها من الاستدلالات الفقهية. وهكذا صار النص الأصلي وصاحب القدسية (القرآن) هو الثانوي أمام النص الموازي الذي صار هو القدسي والمهيمن والمحتكر للنص الأصلي بالفهم والتأويل، وبالتالي رفع هذا النص الموازي النص الأصلي من حياة الأمة كنص حي وجعله نص محنط بأكفان الكهنوت المقدس من التأويلات والتفسيرات والآراء الفقهية.

فأصابنا بذلك ما أصاب اليهود مع المشناة التي أكتتبها أحبارهم وصارت مهيمنة على نصوص التوراة.  فالمِشناه أو المثناة (מִשְׁנָה) (أو كما تعرف بالتلمود)، هو كتاب شارح للتوراة، فالتوراة (النص الأصلي) هي الشريعة المكتوبة، والمشناة (النص الشارح) هي الشريعة الشفاهية. وما يميز المشناه من بدايتها حتى نهايتها هو الخلاف، وقد أحدثت اختلافاتها تحولاً عميقاً في الشرائع السماوية بين نموذج الأنبياء ونموذج الكهنة. فالأنبياء يستمدون صلاحياتهم وسلطتهم من وحي مباشر من الله، الأمر الذي يحول دون وقوع أي اختلاف. وفي مقابل ذلك يستمد الحاخامات (رجال الدين أو الكهنة) سلطاتهم وصلاحياتهم من كونهم مفسرين وأمناء على النصوص والطقوس ونقلها للجمهور وبالتالي شرحها وتعليمها، لذلك تم تبرير الاختلاف بين المفسرين نتيجة أنهم لا يتحدثون باسم الوحي. عليه أصبحت المشناه ترمز لعهد جديد في نمط تعليم التوراة حيث لا يتم الحديث باسم الأنبياء بل باسم الحاخامات (الكهنة).

وهو ما أشار إليه ربنا ودلنا عليه كي ننتبه ونحذر في أكثر من موضع في القرآن الكريم (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) آل عمران). وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه“، لكن للأسف حتى معاني هذه الآيات والأحاديث تم تحريفها أساساً عن مقصدها.

لقد كان الرعيل الأول على قدر ذلك الوعي بهذا الخطر وسلموا منه ومن الحساب السريع عقاباً له، فصنعوا حضارة أمة الإسلام. فكما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد “إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مَثْنَاةٌ كَمَثْنَاةِ أهل الكتاب”. وكنا نحن من بعدهم وبكل أسف دون ذلك القدر من الوعي فبتنا على ما نحن عليه من الانحطاط. وكما جاء في فضائل القرآن لابن سلّام “وإن من أشراط الساعة أن تقرأ الْمُثَنَّاةُ على رءوس الملأ لا تغير» . قيل: وما الْمُثَنَّاةُ ؟ فقال: «ما استكتب من غير كتاب الله»”.

2.      أقفال القلوب:

خلال العهد الراشدي والدولة الأموية وحتى خلافة عمر بن عبد العزيز الذي أمر بجمع الأحاديث النبوية، لم يكن بعد قد تأسس في الإسلام أي مدارس أو مذاهب دينية تصنف الفكر الديني وترسخ الاختلاف في الاجتهاد والآراء المتباينة تحت مسميات خاصة لهذه المدارس والمذاهب والطوائف. وقد تحولت هذه التقسيمات بمسمياتها المختلفة منذ نشأتها ومع الوقت إلى عنصر خلاف وعصبية مذهبية طائفية بدلاً من أن تكون عنصر توحد ضمن الملة الواحدة.

فأصابنا بذلك كمسلمين  ما أصاب أهل الكتاب من تفرقة واختلاف حذرنا رب العزة منها في مواضع كثيرة من التنزيل الحكيم كما رأينا آنفاً، مما أدى إلى تشظي الإسلام ذاته باسم الدين وبموجب الآراء الفقهية التي أرساها رجال الدين. حيث أصبح التقليد ركن جديد من أركان الإسلام أضافه رجال الدين لضمان الحفاظ على المريدين والاتباع وتعزيز شوكة المذهب والطائفة بزيادة أعداد اتباعهم و شوكته كحقيقة واقعة مهما قالوا غير ذلك عنه من كلام إنشائي يمليه العقل التبريري يزينون به عظيم تلك الجناية.

لذلك فقد أصبحت النظرة الفقهية لقواعد الدين محكومة بما يمكن أن نطلق عليه (بارادايم المذهب) أي تلك النظارة الفكرية المستخدمة والمضبوطة عدساتها ودرجاتها بحسب تلك النصوص التي اعتمدها رجال الدين من كل مذهب ومدرسة سواء منسوبة إلى المرويات عن الرسول (ص) أو حتى أراء المتقدمين من رجال الدين وأئمة ومراجع المذاهب. 

وبذلك أصبح الفكر الإسلامي مقيد بهذه النظارة الواجب على المرء ارتداءها وفق مذهبه عند كل قضية دينية أو حتى حياتية، حتى أصبحت العقول مقفلة على البارادايم (نموذج الإدراك والتفكير) الذي يفرضه عليها الواقع الفقهي الذي أوجده رجال الدين. ونتيجة لذلك كله تحول معظم المشتغلين بالعلم الشرعي إلى عقول عقيمة تجتر كل القضايا من واقع الفكر الذي يفرض عليها بسطوة المجتمع الفقهي الذي جعل آراؤه تمت مسمى (رأي الجمهور أو الإجماع) هي النظارة الوحيدة التي يجب استخدامها في الفقه والدين وبذلك ضرب على العقول بأقفال باسم العلم والفكر نفسه.

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد) تدور جميع التفاسير حول أن مفهوم أقفال القلوب هو عدم الوعي وإعمال العقل في آيات الله، لكن هذا المعنى يحمله حقيقة الشق الأول من الآية (أفلا يتدبرون القرآن) أما (أم على قلوب أقفالها) فهي الخيار الثاني لمن أعمل عقله ولكن بسبب أقفال القلوب ضل سبيله في تدبر آيات الله.

لذا فمن غير المستغرب أن نجد أن كل الجهود التي بذلت في تفسير وتأويل آيات القرآن لازالت تخرج بذات النتاجات مع وجود قاعدة أقفال القلوب التي أدت في كثير أحيان رغم كل الشواهد العلمية الحديثة المثبتة بالصور والأدلة العلمية إلى أقوال تخالف كل الحقائق فقط بسبب تفسير جاء به أحد مراجع ومشايخ مذهب أو مدرسة دينية، وهذا ما أدى إلى غياب صفة القرآن المعجزة مع وجود كل هذه التفاسير.

بل الأغرب حقيقة هو أن ننتظر ونتوقع أن تخرج هذه التفاسير وسواها بالجديد إذا كان الأسلوب والطريقة في فهم القرآن هي ذاتها عند الجميع. كيف سيكون هناك فهم للقرآن مغاير لما كتب في التفاسير إذا لم تتغير طريقة البحث عن المعنى أساسا. لأنه وكما قال أينشتاين “الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة“.

3.      استنطاق الوحي

إن العلم الأبرز في مجال القرآن هو ما يسمى بعلم التفسير، لكن رغم أن هذا العمل مغلف بالنوايا الحسنة ومقصد خدمة القرآن وجهود كبيرة بذلت فيه، إلا أنه وفق الأسس التي يقوم عليها فإنه وبقصد أو بدون قصد قد انتهج نهج أدى إلى الإضرار بالقرآن نفسه. حيث أن المفسر يسعى دائماً لتقديم نص مفصل شارح لآيات الله بغية بسط معانيها بما توفر له من معرفة زمانية مرتبطة بهذه الآيات، ولكن المشكلة تحدث عندما يقدم هذا النص المفسر للقرآن الذي يعتمد على فهم ومنظور من قدمه على أنه تفسير لكلام الوحي المنزل من الله، وبالتالي يصبح هذا التفسير هو مراد الله المقصود من هذه الآيات، فيصير لهذا النص بذلك سلطة التأويل للنص الأصلي على اعتبار أنه خلاصة عمل من هم أهل لهذا الأمر دون الناس.  حتى لو لم تكن نية المفسر ذلك إلا أن الطابع الذي يقدم به هو من يحكم نظرة الناس لهذا الأمر.

وهذا أمر نهى الله عنه في كتابه حين قال (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة) حيث أن الأمر لا يتعلق هنا وفق التفاسير فقط بالأحبار والرهبان من اليهود والنصارى الذين قدموا نصوص من التوراة والإنجيل محرفة، ولكن يتعلق بالمفهوم ذاته القائم على احتكار مقصد ومراد الله بآياته حين تقديم نص تحت اسم تفسير. ورحم الله الشيخ الشعراوي الذي كان يقدم فهمه لكتاب الله تحت اسم خواطر حيث ينسب التأويل الذي يقدمه لنفسه وليس لله على خلاف منهج التفسير القائم.

إن قضية استنطاق الوحي كمفهوم كانت ولا زالت تشارك باقي القيود التي نشير إليها هنا في تكبيل إحياء هذا القرآن في حياة الأمة حيث أن إصرار المفسر على تقديم فهمه القاصر لمعاني ومراد القرآن على أنه هو تفسير لكلام الله مستشهداً بكل نص توافر له من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة، جعل هذا التفسير هو مراد الله المقصود من آياته. إن المفسر حين يقدم تفسيره وشرحه للقرآن على أنه تفسير لكلام الله فإنه يقوم فعلياً بنسبة عمله إلى النص  القائم عليه وليس للفهم الحاصل لديه،  وسواء أكان ذلك بقصد أو دون قصد فقد ارتكب جناية فكرية قبل أن تكون دينية في أسس التعامل مع كلام الله. 

إن الوحي لا يستنطق حتى يخرج قرآن آخر منه ينسب إلى مراد الله عز وجل فينال بذلك قدسية النص الأصلي غير الخاضعة أساساً لميزان القبول والرفض وإنما خاضعة فقط لقاعدة حسن الظن والاجتهاد، وبالتالي يعطل هذا النص المستنطق القرآن الأساسي ويجعل خير هذا الاستنطاق وشره للأمة بأسرها. وإنما الذي يستنطق (إن جاز التعبير) هو القرآن (وهو ما سندعوه لاحقاً باسم بارادايم القرآن) وذلك لإخراج فهم جديد منه ينسب لصاحب الفهم ذاته، وبالتالي يخضع لمعايير القبول والرفض الفكرية والعلمية، فلا يمس بذلك خطره كتاب الله أبداً، ويكون بذلك خيره للأمة وشره مردود على صاحبه.

لأن التفسير هو فرض فكر الشخص المفسر على النص، في حين أن الفهم هو فرض مباني ومعاني ومقاصد النص على فكر الشخص. إذن القرآن لا يفسر وإنما يفهم ويطبق بحسب مقتضى الآيات، فإن كانت محكمة ظاهرة الفهم طبقت كما هي، وإن كانت من المتشابه أعمل العقل في الفهم واستقراء الإشارات لبناء قاعدة أو فرضية تقدم بطابع فكري علمي تخدم الإنسانية وسنة الاستخلاف التي أرادها الله، وتكون قابلة للتخلي والاستبدال متى صح ما هو خير منها.

4.      غريزة العَجَل:

يقول صاحب كتاب (تلبيس إبليس) “إن التلبيس هو إظهار الباطل في صورة الحق، وسببه وجود شبهة أوجدت ذلك ومن خلالها يدخل إبليس على الناس بقدر غفلتهم وجهلهم وحظ النفس لديهم، حتى يصل إلى درجة التلاعب بهم“. لذلك إن إضاعة الجهد في مقاصد متوهمة غير المقاصد الحقيقية هو ضرب من ضروب تبليس إبليس مها جندت النصوص المكذوبة أو ملوية الأعناق لأنه يصرف المرء عن القيام بالواجب إلى غيره مع مظنة إنجاز ما يراد منه.

لو سألنا عن أعظم عمل في مجال القرآن وتعلمه في الأمة لما تباطئ أحد في الجواب بأنه حفظ القرآن واستظهاره عن ظهر قلب لينال المؤمن به عظيم الأجر في تيجان النور والشفاعة وغيرها من الفضائل التي ألفت الأحاديث والفتاوى ذات العدد حولها. جهود كبيرة تبذل في سبيل ذلك كما رأينا في الجزء الأول من هذا المقال، ولكن السؤال المهم هنا هل يوجد نص في القرآن يحض على هذا الفعل؟

ليس في كتاب الله آية واحدة تحض على حفظ القرآن، بل على العكس فقد نهى الله عن ذلك وحدد لنا أسلوب التعامل مع القرآن حين قال “ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة“. لكن للأسف هذا المنهج العظيم الذي وضعه الله للتعامل مع القرآن تم تحريف معناه أيضاً حين توالت التفاسير والأحاديث حول أن المقصود بهذه الآيات هو الرسول حصراً حين كان يردد وراء جبريل ليحفظ ما يتلى عليه من الوحي، في حين أن الآيات وسياقها تؤكد أن الخطاب عام ولا يحتمل الحصر، حيث أن المراد من تحريك اللسان به ليس الحفظ به بل العجل به كما صرح به القرآن، ولغوياً لا يوجد رابط بين المعنيين، فعجبي كيف حصروه في معنى لا يحتمله اللفظ اللغوي كما يفسروه. 

والعجل لمن أراد تلمس معناه في كتاب الله بعد دراسة كافة الألفاظ الواردة فيه والتي تربوا على اثنين وثلاثين موضع، فسوف يرى أن (العجل) يأتي بمعنى (طلب الحاضر السهل الذي تزينه النفس بالخير تضليلاً، عوضاً عن المستقبل الذي يحتاج الاجتهاد والذي يكمن فيه الخير الحقيقي). ((وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴿١١﴾ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴿١٨﴾ الإسراء، خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)الأنبياء)). وبذلك يتحقق في الذهن تناسق المراد بالآيات السابقة التي وضح بها الله أسلوب التعامل مع القرآن، حيث أن القرآن في جمعه وقرآنه على الله فإذا أقام الله قرآنه فإن على المؤمنين اتباع قرآنه، ثم يأتي الله ببيانه. واتباع قرآنه هو المنهج الذي سنطلق عليه اسم (بارادايم القرآن).

إن الجهد العقلي والإداري والمالي المبذول في أنشطة حفظ القرآن وإن كانت دوافعه وأسبابه تعظيم شأن القرآن كما يبرر له، إلا أنه بمقياس القرآن يصبح لا شيء إذما أغفل الدور الأساسي الذي حض عليه الله في شأن القرآن من التفكر فيه وتدبره والعمل به وفق صحيح الفهم. وهذا المقصد المتوهم يتكرر في أنشطة تتعلق بالقرآن كثيرة أيضا (ختمة القرآن في رمضان وغيره) تصرف المشتغل فيها عن أهم مقاصد القرآن وبالتالي تضيع معها الرسالة التي جاء بها. عن عثمان وابن مسعود وأبي :” أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ، فيعلمنا القرآن والعمل جميعا

لو أحصينا – على سبيل المثال – من حفاظ القرآن حولنا لوجدنا بعض ممن نعرفهم على غير هدى من الله رغم حفظه لكتاب الله، وذلك لأنه لا يعكس القرآن في سلوكه أو تصرفه أو لربما انتهج النهج المضاد كما شهدنا من قبل بعض رجال دين السلاطين الفاسدين ممن يحفظون القرآن. إذن تكون بالتالي العبرة في الصلاح والرشد هو ظرف الإيمان ذاته الذي يتمتع به الحافظ بغض النظر عما يحفظ من كتاب الله، وبذلك يمضي في حفظة القرآن ما يمضي في سائر المؤمنين والناس وسقط كل ما يدعى من تأثير حفظ القرآن استظهاراً عن ظهر قلب على سلوك وتوفيق الإنسان. وإن كان هناك من توفيق ونبوغ لحفظة القرآن فذلك مرده لملكة الشخص نفسه حيث أن حفظ القرآن بحد ذاته يحتاج ملكات خاصة في الحفظ وتحصيل العلم عموماً.

إن قضية حفظ القرآن ليست هي المشكلة بحد ذاتها، إذ لا مانع من قيام المرء بالحفظ إن استطاع، بل هو خير بلا ريب من حفظ سائر الأشعار والآداب، ولكن الشر كله في جعل هذا العمل من مقاصد الله وبالتالي جعله باب يصرفنا ويسقط في نفوسنا الأخذ بالمقاصد الحقيقية، وبالتالي إضاعة الجهد في الخير المتوهم (العجل) دون الخير الحقيقي (تدبره والعمل به). قال عبد الله بن مسعود : “إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ، ويصعب عليهم العمل به)، وقال ابن عمر أيضاً: كان الفاضل من أصحاب رسول الله (ص) في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به)(3).

5.      النزعة الأسطورية:

ورد في كتاب الله في تسعة مواضع مختلفة منه الإشارة إلى نعت الكافرين للقرآن الكريم بأنه من أساطير الأولين، حيث ساق الله ذلك في إطار إنكار وتكذيب هذه الفرية التي يقول بها الكافرون. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) المطففين)، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) 5-6 الفرقان).

 لكن المتتبع لتفاسير القرآن يجد أن النزعة الأسطورية تكاد تهيمن على معظم كتب التفاسير فيما يتعلق بجزء مهم من القرآن الكريم ألا وهو القصص القرآني الذي يعدل ثلث القرآن تقريباً. وقد يفهم أسباب هذا الأمر خلال نسقه التاريخي والمستوى المعرفي الذي كان قديماً دون أن يكون ذلك مبرر له،  لكن اليوم ومع تقدم النظريات العلمية ونظريات دراسة النصوص بات من غير المقبول مثل تلك التفسيرات الأسطورية أن تكون تأويل لكتاب الله.

إن إنكار الله على الكافرين اتهامهم للقرآن بأنه أساطير الأولين يطال سمة الأسطورية نفسها التي يصفون القرآن بها وليس فقط كفرهم بالقرآن. وهو ما يظهر أنه قد تم تجاهله في التفاسير بسبب البارادايم المرضي وأقفال القلوب التي ابتلينا بها. حيث رأى المفسرون بأننا كمؤمنين بالله وبالقرآن غير معنين بهذا الإنكار من الله وأن الإنكار فقط يطال مقام الكفر وليس سمة الأسطورية بحد ذاتها. 

لذلك جنح المفسرون في مواضع كثيرة من القرآن التي واجهوا في تفسيرها وجود فجوة معرفية لديهم أو فهم منغلق عليهم، نحو تفسير تلك الآيات بطريقة أسطورية تخرج الآيات ومعانيها عن مقصدها وغاياتها. وذلك تحت وطأة الرغبة في تفسير كل كلمة في القرآن، وسواء ذلك أكان خجلاً من إدعاء العجز المعرفي أو خشية من الطعن في كتاب الله أمام ما انغلق عليهم من آياته، فإن هذا الأمر عاد بالوبال على نهج التفسير ذاته من جهة، ومن جهة أخرى سهل وجود مرويات ما أنزل الله بها من سلطان تسلل تلك النزعة الأسطورية إلى فهمهم من خلال أحاديث الاستعانة بالإسرائيليات .

الأساطير أو ما يعرف بالميثولوجيا هي بالتعريف قصص تراثية شعبية قديمة لا يعرف لها أصل على وجه الدقة، يطغى عليها الخيال وتمتلئ بالمبالغات مع قليل من الحقيقة. تدور غالباً حول حياة أشخاص متميزين اصطنعت لهم أحداث درامية بطولية خاصة لخلق أسطورتهم، أو أحداث كونية لم يلق لها الإنسان تفسير عقلي منطقي فجنح للخيال والخوارق لتعليلها. تنتمي إلى هذه الأساطير قصص الآلهة والأنبياء والأولياء والقديسين وأبطال السير، وتروى أحداثها نثراً أو شعراً بأسلوب قصصي يصعب إسناده إلى مؤلف معين (4).

وهذا المعنى للأساطير هو تماماً ما ينفيه الله في قرآنه عن آياته، فحاشا أن تكون الأخبار والقصص التي ساقها فيها ذات طابع أسطوري يستخدم في تفسيرها العقل ذي النزعة الاسطورية المغرم بملء الفراغ الحدثي أو فجوات الشخصيات في الأحداث بالسرد الدرامي المتوهم أو تعليل الغرائب من خلال الخيال والخوارق.  لأن هذه النزعة الأسطورية تذهب بالقصة وبنائها الحدثي من مقصد فهم السنن الإلهية في أنسنة المجتمعات والحضارات لتوظيفها في الحياة والارتقاء بالمجتمعات الإنسانية تحقيقاً لأمانة الاستخلاف، إلى مقصد إشباع هوى النفس بما تحبه من الخيال المفعم بالخوارق والغرائبيات ودراما الإنسان السوبر الذي تعيشه النفس البشرية وتتمناه في خيالاتها .

هذه النزعة الأسطورية هي النقيض تماماً للسنن الإلهية، فالسنن الإلهية هي قوانين ربانية منضبطة محكمة البناء تشكل في تكاملها منظومة فريدة من التناسق وتناهي اللطف التي تقود العقل الواعي والمدرك إلى اكتشاف أسرارها وفهم كينونتها وفق قوانين العقل والمنطق، وبالتالي الاستفادة منها في بناء حياته ومجتمعه وتحقيق أمانة الاستخلاف على الوجه الأمثل الذي أراده الله.

وهكذا نرى أن هذا البارادايم المرضي الذي ابتلينا به قد طوق وكبل القرآن الكريم بقيوده الخمسة التي عطلت معجزته وأضاعت رسالته، فخسرت بذلك أمة القرآن مكانتها بين الأمم، وخسرت الإنسانية الحبل الأخير للاتصال الرسالي بين السماء والأرض، هذا الحبل الرسالي الذي يمثل  الرسالة الخاتمية الخالدة المسؤولة عن عملية استمرار دفع عجلة تطور المعرفة والقيم الإنسانية، مما أدى إلى حالة التنكس القيمي التي نحياها إنسانياً أمام التطور العلمي والتقني الذي بلغناه.

حيث إن خاتمية رسالة محمد بن عبد الله (ص) لم تكن من قبيل المعنى المجازي الذي تعودنا على سماعه والمتعلق بتكريمه عند ربه وهو المكرم، وإنما هي نسق متكامل متطور مستدام لدين واحد هو الإسلام أراده الله منذ كلمات آدم الأولى ومروراً بأول الرسل وأول الكتب وما تلاهم وانتهاء بآخر الكلمات والرسل والكتب. لقد كانت الكلمات الإلهية تتنزل كرسالة جديدة لتحدث في كل مرة نقلة تطورية أعلى في المعرفة والقيم الإنسانية إلى أن وصلت إلى الرسالة المحمدية ممثلة بالقرآن الكريم.

حيث ضمَّن الله في هذا الكتاب أسرار وسنن إلهية خاصة جعلت منه رسالة إعجازية  تطورية واحدة تحل محل الرسالات الإلهية التطورية المتتالية التي كانت تنزل. حيث يقدم هذا الكتاب صورة إعجازية حقيقية قادرة على إثبات ذاتها إذما أتيح لها ذلك من خلال قدرة نصوصه على الدوران مع المعنى وفق ما تبلغه المعرفة الإنسانية في كل زمان ومكان. لكن التعطيل سالف الذكر والذي طال هذه المعجزة أدى إلى ضياع الرسالة وتهميش دور هذه المعجزة الإلهية في بناء الأمة والإنسانية جمعاء. 

وإن كانت الإنسانية قد استفادت من بعض ما نزل به القرآن من خلال بعض المعارف والقيم التي تم نقلها للغرب عن أمة الإسلام فإن ذلك التطور كان ليكون منذ أمد بعيد لو أمكن في حينها إطلاق العنان لفهم القرآن على النحو الذي أراده الله له، ولبقي هذا التطور حينها مرتبطاً بالرسالة من خلال منظومة القيم الأخلاقية التي يخلو منها أو يشوهها ذلك التطور المعرفي الإنساني الذي يشهده الغرب اليوم ويقود من خلاله ركب الإنسانية جمعاء.

لذا كان لا بد من البحث عن ذلك المنهج القرآني الذي بثه الله في ثنايا آياته المنظورة والمسطورة، ووضع مفاتيحه وأسراره في تراكيبه وألفاظه القرآنية التي ينظمها قانون فهم حدد قواعده وأحكم مبادئه في تنزيله الحكيم، هذا المنهج هو ما سنطلق عليه( بارادايم القرآن) وهو ما سنتناوله في مقالنا القادم بحول الله تعالى.

المصادر:

  1. أخرجه الترمذي في سنه عن ابن عباس ( اتَّقوا الحديثَ عنِّي إلَّا ما علِمتُمْ فمَن كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّارِ ، ومَن قال في القرآنِ برأيِّهِ ، فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّارِ).
  2. قالها الإمام الأوزاعي كما في ” البحر المحيط ” للزركشي ( 6 / 11 ) ، ونقله ابن مفلح الحنبلي في ” الآداب الشرعية ” ( 2 / 307 ) عن التابعي مكحول الشامي ، وتلقى رجال الدين هذا القول واستخدموه فما يكاد يخلو كتاب فقه لتأكيد السنة منه.
  3. بلال أحمد البستاني الرفاعي، إقامة البراهين لبيان وسائل وأسباب اليقين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1971م.
  4.  فراس السواح، الأسطورة والمعنى؛ دراسات في الميثولوجيا والدراسات المشرقية، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، سوريا، 2001م.

شارك:

مقالات ذات صلة:

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

باحـــث دكتــــــوراة فـــي الدراســـــات الإسلاميـــــة
كـاتب وباحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top